آلمني شيء في الحياة ما آلمتني الةحدة ، كنت أشعر كلما انفردت بفراغ هائل في نفسي ، وأحس بأنها غريبة عني ، ثقيلة علي لا أطيق الإنفراد بها ، فإذا انفردت بها أحسست أن بيني وبين الحياة صحاري قاحلة ، ويبدأ مالها من آخر ، بل كنت أرى العالم في كثير من الأحيان وحشاً فاغراً فاه لابتلاعي ، فأحاول الفرار ، ولكن أين المفر من نفسي التي بين جنبي ، ودنياي التي أعيش فيها ؟
ان نفسي عميقة واسعة ، أو لعلي أراها عميقة واسعة لطول ما أحدق فيها ، وأتأمل جوانبها ، فتخيفني بسعتها وعمقها ، ويرمضني أنه لايملؤها شيء مهما كان كبيراً ـ ـ ـ وهذا العالم ضيق أو لعلي أراه ضيقاً لاشتغالي عنه بنفسي ، وشعوري بسعتها ، فأراه يخنقني بضيقه ـ ـ ـ
إني أجمع العالم كله في فكرة واحدة أرميها في زاوية من زوايا نفسي ، في نقطة صغيرة من هذا الفضاء الرحيب ، ثم أعيش في وحدة مرعبة أنظر ما يملأ هذا الفضاء ـ ـ ـ
إني كلما انفردت بنفسي ، فتجرأت على درسها ، والتغلل في أعماقها ، بدت لي أرحب وأعجب ، فما هذا المخلوق الذي يحويه جسم صغير ، لايشغل من الكون إلا فراغاً ضيقاً كالذي يشغله صندوق أو كرسي ـ ـ ـ ويحوي هو ــ المكان ــ كله ، ويشمل ــ الزمان ــ ، وينتقل من الأزل إلى الأبد في أقل من لحظة ، وينتظم ــ الوجود ــ كله بفكرة ، وتكاد الحياة نفسها تضل في أغواره ؟
من المستحيل أن نفهم هذا المخلوق الذي ندعوه ــ النفس ــ لذلك نخاف الوحدة ونفر منها ، إننا نخشى نفوسنا ، ولانستطيع أن ننفرد بها ، فنحب أن نشتغل عنها بصحبة صاحب ، أو حب حبيب ، أو عمل من الأعمال ـ ـ ـ ونخشى الحياة ، ونحب أن نقطعها بحديث تافه ، أو كتاب سخيف ، أو غير ذلك مما نملأ به أيامنا الفارغة ، وإذا نحن اضطررنا مرة إلى مواجهة الحياة ، ومقابلة الزمان خالياً من ألهية نلهو بها ، كما يكون في ساعة الإنتظار مللنا وتبرمنا بالحياة وأحسسنا بأن الفلك يدور على عواتقنا ، أفليس هذا سراً عجيباً من أسرار الحياة ، وهي أعز شيء عليه ، ويسعى لتبديدها واضاعتها ؟
عجزت عن احتمال هذه الوحدة ، وثقل علي هذا الفراغ الذي أحسه في نفسي ، فخالطت الناس ، واستكثرت من الصحابة ، فوجدت في ذلك أنساً لنفسي ، واجتماعاً لشملي ، فكنت أتحدث وأمرح وأمزح وأضحك وأضحك ، حتى ليظنني الرائي أسعد خلق الله وأطربهم ، بيد أني لم أكن أفارق أصحابي وأنفرد بنفسي ، حتى يعود هذا الفراغ الرهيب ، وترجع هذه الوحدة الموحشة
انغمست في الحياة لأملأ نفسي بمشاغل الحياة ، وأغرق وحدتي في لجة المجتمع ، واتصلت بالسياسة وخببت فيها ووضعت وكتبت وخطبت ، فكنت أحس وأنا على المنبر بأني لست منفرداً وإنما أنا مندمج في هذه الحشد الذي يصفق لي ويهتف ـ ـ ـ ولكني لاأخرج من الندى ويرفض الناس من حولي ، وانفرد في غرفتي حتى يعود هذا الفراغ أهول مما كان ، وترجع الوحدة أثقل ، فكأنها مانقصت هناك إلا لتزداد هنا ، كالماء تسد مخرجه فينقطع ، ولكنك لاترفع يدك حتى يتدفق ماكان قد اجتمع فيه ـ ـ ـ فماذا يفيدني أن أذكر في مئة مجلس أو يمر اسمي على ألف لساان ، وإأن يتناقش في الناس ويختصموا ، إذا كنت أنا في تلك الساعة منفرداً مستوحشاً متألماً ؟
وجدت الشهرة لاتفيد إلا اسمي ، ولكن اسمي ليس مني ، ولاهو ــ أنا ــ فأحببت أن أجد الأنس بالحب وأن أنجو به من وحدتي ، فلم أجد الحب الاء اسماً لغير شيء ، ليس له في الدنيا وجود ، وإنما فيها تقارب أشباح
ولكن أن تلتقي الأرواح ؟ وأين هذا الحب الجارف القوي الخالص الذي يأكل الحبيبين كما تأكل النار المعدن ، ثم تخرجها جوهراً واحداً مصفى نقياً مافيه ــ أنا ــ ولا ــ أنت ــ ولكن فيه ــ نحن ــ ؟
فنفضت يدي من الحب ، ويئست من أن أرى عند الناس الإجتماع المظلق ، فعدت بطوعي أنشد الوحدة المظلقة
صرت أكره أن التقي بالناس ، وأنفر من المجتمعات ، لأني لم أجد في كل ذلك إلا اجتماعاً مزيفاً ، يتعانق الحبيبان ، ولو كشف لك عن نفسيهما لرأيت بينهما مثل مابين الأزل والأبد ، ويتناجى الصديقان ، ويتبادلان عبارات الود والأخاء ، ولو ظهر لك باطنهما لرأيت كلا منهما يلعن الآخر ، وترى الجمعية الوطنية ، أو الحزب الشعبي ، فلا تسمع إلا خطباً في التضحية والإخلاص ، ولا ترى إلا اجتماعاً واتفاقاً بين الأعضاء ولو دخلت في قلوبهم لما وجدت إلا الإخلاص للذات ، وحب النفس ، وتضحية كل شيء في سبيل لذة شخصية أو منفعة
وجدتني غريباً بين الناس فتركت الناس وانصرفت إلى نفسي أكشف عالمها ، وأجوب مافيها وأقطع بحارها ، وأدرس نواميسها وجعلت من أفكاري وعواطفي أصدقاء وأعداء ، وعشت بحب الأصدقاء وحرب الأعداء ـ ـ ـ
إن منن حاول معرفة نفسه عرضت له عقبات كأداء ، ومشقات جسام ، فإن هو صبر علبها ، بلغ الغاية ، ومالغاية التي تطمئن معها النفس إلى الوحدة ، وتأنس بالحياة ، وتدرك اللذة الكبرى ، مالغاية إلا معرفة الله
وسيظل الناس تحت أثقال العزلة المخيفة حتى يتصلوا بالله ويفكروا دائماً في أنه معهم ، وأنه يراهم ويسمعهم ، هنالك تصير الآلآم في الله لذة ، والجوع في الله شبعاً ، والمرض صحة ، والموت هو الحياة السرمدية الخالدة ، هنالك لايبالي الإنسان إلا يكون معه أحد ، لأنه يكون مع الله
إن دعوة واحدة لي ، بعد موتي ، من قارئ حاضر القلب مع الله ، أجدى علي من مئة مقالة في رثائي ، ومئة حفلة في تأبيني ، لأن هذه الدعوة لي أنا ، والمقالات والحفلات لكتابها وخطبائها ، وليس للميت فيها شيء
الشيخ
علي الطنطاوي رحمه الله
* * * * * * * * * * * * * * * * * *